اعتاد المستوطنون اليهود ان يستولوا على بيوت الفلسطينيين في القدس الشرقية في الساعات الاولى من الفجر ضمن خطط موضوعة مسبقا حتى لا يكون هناك اعلام يسجل جريمتهم. حدث هذا في حي سلوان الواقع جنوبي المسجد الاقصى وفي غيره.
استولى المستوطنون في ساعة مبكرة من فجر الأربعاء الموافق 31-3-2004 على مبنيين سكنيين مأهولين يضمّان (13 شقة) سكنية في حي سلوان ، علمًا بأن ملكية هذين المبنيين تعود إلى عائلتي الرجبي ومراغة!! وقد رافق هؤلاء المستوطنين قوة معززة من الجيش كانت معهم حينما داهموا هذين المبنيين في الساعة الثالثة فجراً وأصحابها نيام ، وطردوا العائلات واعتدوا على النساء والأطفال ورموا أثاث هذه العائلات في الشارع ثم أدخلوا أثاثا جديدًا ، وأدخلوا فيهما عشر عائلات من المستوطنين!!
ومع مرور الايام راح يزداد عدد العائلات اليهودية في حي سلوان ، واصبحت بعض البيوتات الفلسطينية في المنطقة محاصرة ، واصبحت كجزر صغيرة بين طوفان بحر من المستوطنين اليهود الجدد.
كان ابو الناصر صلاح الدين وهذه كانت كنيته ، كان احد اصحاب ما تبقى من الدور التي كان يملكها الفلسطينيون في القدس ممن تشبثوا بدورهم. كان ابو الناصر صلاح الدين يعيش مع اسرته الفقيرة التى كانت تتكون من زوجته وطفله البالغ من العمر اربع سنوات. لكن سخريات القدر ظلت تلاحق هذا المسكين منذ ان اصر ان يسمي اول مولود له بالناصر صلاح الدين تيمنا بصلاح الدين القائد الاسلامي الشهير الذي حرر القدس من الصليبيين. وسرعان ما صار يعرفه جميع سكان الحي من الفلسطينيين المقدسيين والمستوطنين الذين راحت اعدادهم تتزايد مع الوقت في الحي بهذه الكنيه اكثر مما كانوا يعرفونه باسمه الحقيقي.
وحيث ان كل شيء من الاقتصاد صارتقريبا بيد الاسرائيليين بعد احتلالهم للضفة الغربية وتهويد القدس ، كان ابو الناصر صلاح الدين يُعاقب بالطرد من العمل في كثير من الاحيان حينما يعرف رب العمل الاسرائيلي بان دافعه وطني وديني في اختيار اسم طفله ، وتيمنا من اجل تخليص القدس من بني اسرائيل.
تحملت اسرة ابو الناصر صلاح الدين الكثير من مضايقات الجيران الجدد ، لكن ابو الناصر صلاح الدين ظل متمسكا بحقه بالبقاء في داره ، وقاوم شتى الاغراءات المالية والعينية لكي يترك هذا البيت القديم الذي اصبحت فيه الحياة لا تطاق بسبب ما كان يفعله المستوطنون من استهتار واساءة لهذه الاسرة المسكينة. كان ابو الناصر صلاح الدين كمن ينحت في الصخر من اجل لقمة العيش ، وكانت زوجته تعيش في سجن اسمه هذا البيت لكنها ظلت واقفة معه تواسيه وتشعره بان الفرج قادم لا محالة ، وهي التي حصلت على الشهادة الثانوية قبلا ايام ما كان ابو الناصر صلاح الدين بن عمها طالبا ، وكانا يلتقيان كثيرا من خلال القرابة التي كانت تجمع اسرتيهما الى ان اصبحا زوجين يحملان املا واحدا وهما واحدا الى ان رزقهما الله بطفلهما الذي اسمياه الناصر صلاح الدين ، الذي كان الشمعة التي كانت تضيء عليهما ايام الاحتلال المظلمة.
في صباح احد الايام وبينما ابو الناصر صلاح الدين كان قد اتم وضوءه ، وكان يستعد لصلاة الفجر فاذا به يسمع ضجيجا وصخبا راح يزداد مع كل لحظة تمر ، وكأن الضجيج كان يسير على ارجل وكان يشعر باقترابه من داره. ما هي الا لحظات الا وقد سمع اكثر من يد تطرق وتدق باب بيته الخارجي وبطريقة فيها استعداء. انتفضت زوجته من فراشها قائلة ، اللهم اجعله خيرا. نسي ابو الناصر صلاح الدين كل شيء واتجه نحو الباب الخارجي وسأل من الطارق .. من انتم .. ماذا يحدث .. ماذا تريدون. اجابه صوت رجل يشبه قعقعة الجمل ، افتخ الباب ابو النخصر صلاح دين. افتخ يلا بفتخ.
فتح الباب ابو الناصر صلاح الدين وقبل ان يوجه سؤالا لاحد ، وكان قد عرف من هؤلاء فلا يخفى على عرب اهل القدس ان يميزوا بين العرب الفلسطينيين والاسرائيليين في مدينتهم. ما كان من الجمهرة اليهودية التي تقف امام باب الدار الا ان قدم الرجل ذي الصوت العالي الذي كان يدق على الباب بعنف ، قدم وثيقة مزيفة قال عنها انها عقد بيع وشراء بينه وبين ابو الناصر صلاح الدين موضوعها دار ابو الناصر صلاح الدين نفسه ، واكمل اليهودي ، عليك بان تخلي البيت الان والا..
فور ان سمع ابو الناصر صلاح الدين ما قاله اليهودي ، استشاط غضبا وجن جنونه والتفت حوله هل من معين هل يستطيع شيئا لكي يسكت هذا الكاذب. وعاد الى شيء من طبيعته بينما بركان الغضب ما زال يزمجر ويدوي في راسه. قال ماذا تقول يا خواجة ، تقول ان هذا عقد بيع وشراء لبيتي ام انني لم افهم ما قلت. ما كان من اليهودي الا ان التفت ببطء حوله ملقيا نظرة على من معه من اليهود ، وكأنه يهدد ابو الناصر صلاح الدين عنوة ، ويقول له لا تضيع وقتك وانفذ بجلدك احسن قبل ان يحدث لك شيئا لا يسرك. واعاد اليهودي ما قاله سابقا على ابو الناصر صلاح الدين بثبات وبعزم اكيد لا يقبل المساومة. رد ابو الناصر صلاح الدين على المتحدث اليهودي ، هذا البيت ورثته عن جدي وجدي ولد به وانا لا ابيع ارض اجدادي وما تقوله كذب وتزييف وباطل والدنيا ليست سائبة لكم تفعلون ما تريدون. رد عليه المتحدث باسم المجموعة الغازية بان قال له معك ساعة واحدة لكي تخرج اسرتك واشياءك خارج البيت ، وقام بدفعه الى داخل الدار ، كان قد مضى بعضا من الوقت وابو ناصر يرفض قبول منطق المستوطنين وقربت الشمس ان تشرق على ماساة اسرة فلسطينية.
دخل ابو الناصر صلاح الدين داره وقام بسد الباب لستر اسرته من الفضوليين ، ومضى نحو زوجته وهو حائر يتحدث مع نفسه ، وقد شعر بضعفه وصار خجلا بان يواجه زوجته بشعوره بالهزيمة في داخله من وطأة هذا الهول الذي راح يسقط على راسه. لم تكن زوجته كمن ينتظر ان ياتي اليها ليخبرها ماذا حدث وماذا يريد من طرقوا باب داره. اشفقت عليه وشعرت بالالم الذي كان يعانيه. اتجهت نحوه بلهفة ما الخبر يا ابا الناصر صلاح الدين. خيرا انشاء الله يا خوي. رد عليها بحزن يقطع القلوب وكأنه يرد عليها ويرد على نفسه .. ماذا افعل يا ربي بينما عيناه كانتا تغرورقان بالدموع. قالت له زوجته لا تبكي يا ابا الناصر صلاح الدين فما عهدتك الا قويا على الشدائد. رد عليها واي قوة تعنين ، هل هي قوة العرب الذين كنت تحفظين اشعارهم ، وكنا نرفع شعاراتهم الى ان حفيت السنتنا وانثلمت اقلامنا ونحن نكتب ونهتف ونردد ما يقولونه لنا مثل هتاف ، القس لنا. اين العرب يا ام الناصر وفلسطين قلب الوطن العربي. اين المسلمون والقدس اولى القبلتين. واكمل بياس وضياع وصار يقول كلاما غير مفهوم..
بعد ذلك اشتد الطرق على الباب ولم يخرج ابو الناصر صلاح الدين من البيت وتشجع وزوجته وراحا يقولان لبعضهما واصواتهما تتداخل بالكلمات ، اين سنذهب .. لن نخرج من البيت .. الله سيحاسبنا لو فرطنا به لانه قريب من الاقصى ، ماذا نقول لابننا غدا حينما يكبر ويعرف باننا غادرنا بيتنا او ان ياتي موتور من ابناء جلدتنا ويوصمنا بالخيانة باننا بعنا بيتنا لليهود.
وبينما الزوجان على هذا الحال غير عابئين بمن يطرقون الباب بشده اذ بجمهرة اليهود يحطمون باب الدار ويندفعوا ناحية الرجل والمرأة ضربا بما لاح لهم من ادوات وبالايدي وجروهما مع الطفل خارج الدار والقوا باجسادهما على الارض.
كان الطفل الناصر صلاح الدين مروعا وقد تناوله من فراش نومه احد المستوطنين واعطاه لاخر ليقذف به خارج الدار. وقف الطفل قرب جسدي والديه الملقيين على الارض خارج الدار ، وكان لا يعرف ماذا يقول او يفعل ، وكان على وجهه مرسوم خليط من الخوف والفزع والبكاء الصامت.
في تلك الاثناء وكانت الشس قد اشرقت وعمل المستوطنون على رمي حاجات تلك الاسرة من اثاث وغيره خارج الدار واسكنوا من جيء به ليحتل دار ابو الناصر صلاح الدين. حينها اعتدل ابو الناصر صلاح الدين متكا على حائط داره بينما زوجته ما زالت تجلس على الارض ليس بعيدا عنه بعد ما ذاقا من ضرب وشتائم واذلال من كل من كان يخرج او يدخل الى من كانت دارهم. راح ابو الناصر صلاح الدين يائسا يقول بصوت باكي ، الدنيا ليست فوضى ولستم كل شيء .. هناك قانون .. هناك قوانين دولية.. هناك امم متحدة. كان بعض المستوطنون يتوقفون عند ابو الناصر صلاح الدين وبعاداتهم المحبة للجدل كانوا يردون على صاحب البيت الاصلي ، هذه ارض اسرائيل فاذهبوا الى بلاد العرب.
فجأة انتفضت ام الناصر صلاح الدين واقفة بعد ان صحت على حالها وعلى من حولها وتذكرت ابنها. التفتت الى ابو الناصر صلاح الدين بينما هو كان مشغولا في جدل لا يرجى منه فائدة مع احد اليهود المجادلين ، وامسكته من خلف قميصه وشدته بكل قوتها. نادته قائلة اين الولد. التفت اليها ابو الناصر صلاح الدين متسائلا ، اي ولد تعنين يا امرأة. ردت عليه ابني الناصر صلاح الدين اختفى .. هو غير موجود وانا لا اراه هنا. هل نسيت بان حياتنا لا تعني شيئا بدون الناصر صلاح الدين.
التفت الزوجان المشدوهان هنا وهناك وبحثا عن الطفل فلم يجدا له اثر. قال الاب يا الهي لقد اكتملت مصيبتنا الان يا امرأة ، لقد خسرنا البيت وتبعثرت اشياؤنا في الشارع ، واختفى ابننا الامل المرجو ، وكتب علينا من الان فصاعدا بان نعيش فصلا ماساويا جديدا فيما تبقى لنا من عمر وما فائدة الحياة بلا بيت ولا ابن. ردت عليه الزوجة وقد راته حزينا متشائما ، لا تتشاءم ولا تكن هكذا حزينا ، واكملت بما تستطيع قوله ، لا تقل هكذا يا اب الناصر ، اليهود يريدون الارض ولا يريدون البشر .. سنجد الطفل ان شاء الله. التفت اليها ابو الناصر صلاح الدين وقال ، وكان في تلك الاثناء يتلفت يمنة ويسرى متوجسا وآملا بان تقع عيناه على ابنه المفقود ، وصار وجهه يوحي بشيء غامض. قال لها اسمعيني جيدا يا امرأة ، وتمالكي نفسك فالامر جد خطير هذه المرة بل واكثر من خطير. ردت عليه بتساؤل مشوب بحيرة كمن لم يفهم ، ماذا تعني يا ابن العم بجد خطير اتعني اكثر من فقدان البيت. قال نعم يا زوجتي المسكينة ، لقد جرت العادة في دولة اسرائيل بان كان اليهود ياخذون الاطفال الفلسطينيين وهم في عمر الزهور ، وكانت تتبناهم الاسر الاسرائيلية ، وكانوا بنشئونهم نشأة عسكرية ويحشون ادمغتهم بالحقد والكره لاي شيء اسمه عربي ويضعونهم في الاجهزة الامنية فيكونون الاقسى في معاملتهم للفلسطينيين حتى لو عرفوا بعد ذلك بانهم من اصل فلسطيني. واكمل موجها كلامه لزوجته التي صارت تتوه عن الواقع رويدا رويدا كلما امتد سماعها لما يقول. ما كادت ان تسمع ما كان يصفه لها من احتمالات الا وقالت اكمل يا ابن العم بربك اكمل فانا على وشك ان اموت ضياعا. اكمل متسائلا وكان لم يتنبه الى ما قالته اخيرا ، قال ، هل يا ترى ان ابننا ايضا سيحل به ما حدث لكثير من الاطفال خصوصا ان كثيرا من العائلات الفلسطينية لم تتمكن من التقاط اطفالها في عام 1948م حينما كان اليهود يداهمون القرى والمدن الفلسطينية ، ويشرعون في اطلاق الرصاص على كل شيء كان يتحرك في الشوارع مما ارعب الناس وجعل الكثيرين لا يتمكنون من العودة الى بيوتهم لالتقاط حتى اطفالهم والهروب بهم قبل الرحيل مما جعل كثير من الاطفال الصغار يتوهون او يفقدون ذويهم ، وفي النهاية كان يجمعهم الجيش الاسرائيلي ، وكانت تتبناهم الاسر والامهات اليهوديات ويصبحون من قساة جيش الدفاع الاسرائيلي على الفلسطينيين.
ما كاد ابو الناصر صلاح الدين ينهي الكلمة الاخيرة مما قاله فاذا بزوجته تصرخ باعلى صوتها ، قيل ان اناسا ممن كانوا على عتبات مداخل المسجد الاقصى قد سمعوا صرختها ، قالت: حتى الناصر صلاح الدين سيجعلوه عدوا لنا. تسمر الزوج في مكانه وهو يسمع تكرار صرخاتها بعد ثلاث مرات ، ووقف مذهولا لا يدري ماذا يفعل ، وصار الغادين من اليهود الذين احتلوا دارهم يمرون عن الزوجين فلا يعيرونهما اهتماما وكانهما متسولان كانا صدفة في تلك الحارة وسيختفيان منها ، وربما لن يعودا اليها بعد ذلك كما حدث مع غيرهما من الفلسطينيين الذي صوردت دورهم بنفس الطريقة..