لو حكم عليك أن تعيش في منطقة جغرافية لا تستطيع أن تغادرها، وكنا أشد قسوة عليك، وأخبرناك أن حياتك ستكون بلا كهرباء وربما بلا ماء ولا دواء، وفي كثير من الأحيان بلا وسيلة نقل تقلك إلى حيث تريد، فستعلم حينها أنك تعيش محاصراً، كما ستعلم بالبديهة أننا نتكلم عن قطاع غزة.
هكذا يبدو حال غزة اليوم، ولا أحد يعلم ما ستؤول إليه الأوضاع غداً، فأحاديث سكان القطاع اليومية باتت تعبر عن أحوالهم، وربما لم يجدوا سوى الكلام لكي يخففوا من همومهم ومشاكلهم.
سكان القطاع والبالغ عددهم أكثر من مليون ونصف مليون مواطن يعيشون حياة لا مثيل لها، لا تجدها في النيجر ولا في الشيشان وحتى في الصومال، حيث الحصار الإسرائيلي الجائر ، وإغلاق المعابر، ومنع الوقود، وانقطاع الكهرباء ، وفقدان الحاجات الأساسية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وانعدام مواد البناء، وغيرها الكثير الكثير... مشاكل، بل واقع أصبح يعانيه المواطن الغزي الذي بات لا حول له ولا قوة، وبات يشكو همه إلى الله عز وجل بانتظار الفرج.
ُجلت بين المواطنين الذين أعيش همهم، واستمعت لأحاديثهم التي كانت صورة لحياتهم ومعاناتهم.
"كل يوم بأمشي 5 كيلو وربما أكثر لكي أصل جامعتي" بهذه الكلمات بدأ طالب كلية الآداب في الجامعة الإسلامية بغزة، "هاني عبد الهادي" من سكان مخيم النصيرات وسط قطاع غزة حديثه معنا، حيث بدا في صورة لا يحسد عليها من التعب والإرهاق، وهو متوجه إلى جامعته لأداء الامتحانات النهائية للفصل الدراسي الثاني".
المواطن عبد الهادي حاول بكلمات قليلة أن يصف لنا رحلته اليومية لجامعته بالقول " همي ليست الامتحانات، ولكن الهم الأكبر عندي كيف أصل الجامعة لكي أقدمها".
معاناة لم تكن بعيدة عن معاناة طالب الثانوية العامة "أحمد البسيوني" من سكان مخيم جباليا شمال القطاع، والذي تملك الخوف والتوتر قلبه، عندما تحدث عن قرب امتحانات الثانوية العامة، وعن استعداده كطالب لهذه الامتحانات.
وقال الطالب البسيوني "إنه يعاني كثيراً من الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، وأنه يضطر إلى قضاء وقتاً طويلاً في الليل بانتظار عودة الكهرباء ليعود مجدداً إلى دراسته، مشيراً إلى أن بيته يفتقر إلى وسائل بديلة عن الكهرباء، كالمصابيح وغيرها.
وتابع يقول :" أشعر أن الوقت يضيع مني، وأنا بحاجة لكل دقيقة استغلها في الدراسة لأن الامتحانات على الأبواب، وهذا مستقبلي وحرام يضيع".
أنبوبة غاز على الأكتاف، وقدمان بالكاد أن يمشيان من ثقل المحمول، كان هذا هو حال المواطن عطية أبو عجوة 55 عاماً، حين التقيته عائداً إلى بيته، بعد أن تمكن من تعبئة الأنبوبة من إحدى محطات الغاز في مدينة غزة.
الفرحة انطلقت من وجهه، رغم أن التعب والإرهاق غطى هذا الوجه الذي رسمت هموم الحياة ملامحه، عندما أخبرنا أنه تمكن من تعبئة أنبوبة الغاز بعد شهر كامل من انقطاع الغاز في بيته.
وما إن استطاع أن يلتقط أنفاسه، حتى روى لنا المعاناة اليومية التي كان يخوضها من أجل الحصول على أنبوبة الغاز والتي كان يحتضنها خوفاً من أن يفتقدها ثانية، وقال "كل يوم بأخرج من الفجر، وبأقف في طابور طويل، بأستنى حتى أعبئ أنبوبتي بالغاز، لكن كل يوم بيحدث مشاكل، والناس بتضرب بعض، وأخر اليوم كنت أروح على البيت بدون فايدة، وأرجع أكرر التجربة مرة ثانية، حتى تمكنت بعد شهر من الحصول على هذه الأنبوبة".
أحوال المواطنين الغزيين تزداد صعوبة ومأساة عندما تجد أن الموت يلاحقهم، بمجرد أن يرقدوا على فراش المرض، زرت مستشفى الشفاء بمدينة غزة وأطلعت على معاناة ربما كان من الأفضل لي أني بقيت أجهلها.
ففي المستشفى لا ترى إلا الموت ولا تسمع إلا الصراخ والمناشدات، فنقص الدواء وقلة الإمكانات كانت كفيلةً بزيادة عدد الضحايا من المرضى بصورة شبه يومية.
المواطنة المسنة فاطمة الحجار 63 عاماً كانت جالسة في إحدى غرف غسيل الكلى، حيث تعاني من فشل كلوي مزمن، يستدعي بقائها في المشفى بصورة دائمة، ولكن انقطاع التيار الكهربائي وإزدياد حالات المرضى داخل القسم نفسه، يدفع بأبنائها إلى نقلها يومين في الأسبوع من البيت إلى المستشفى والانتظار ساعات طويلة لكي تتمكن من تلقي العلاج اللازم.
الشاب محمد نجل الحاجة فاطمة، عبر عن مخاوفه وحزنه على حالة والدته قائلاً: "إنها لم تعد تتحمل هذه المشقة، وأن قلبه يتمزق شفقة على حالها"، مشيراً إلى أنه يتوقع كل دقيقة بأن تلتق بقافلة ضحايا الحصار.
هذه مشاهد بل سيناريو من سيناريوهات الحياة المؤلمة التي يكابدها المواطن الغزي ساعة بساعة ويوماً بيوم في انتظار حل وفرج قريب، بعد حصار ضاقت حلقاته خنقاً على